تقلّبت طفلة الأعوام التسعة على فراشها، ولم تستطع النوم..فلمّا سألتها جدّتها عن سبب تململها أجابتها باكية: أحسّ يا جدّتي بحرقة شديدة في صدري..شوقاً لأمي.
كان للأم نصيب كبير في الأدب منذ القدم..إبتداء بالشعر ومروراً بالقصّة وإنتهاء بالخاطرة..وغيرها من الفنون الأدبيّة المختلفة..
غير أنّ هذا الأدب قد أغفل ذلك الجانب العاطفيّ الذي يتّصل بفقد الأمّ في مرحلة الطفولة المبكرة وأثر ذلك على سلوكيّات الإنسان ومشاعره..
لا أدري حقيقة متى بدأ إهتمام الأدباء بهذا الجانب..ولكن ما أعرفه أنّ الكاتب الروسي فيدور دستوفسكي قد تحدّث عنه وبشراسة..لما له من أثر على ما بعد مرحلة الطفولة..فكان ينثر مشاعر المرارة في مواضع مختلفة من روايته -المراهق-.
وفي روايته -رسائل من أعماق الأرضأو في قبوي أو الرجل الصرصار- يتحدّث على لسان بطل الرواية قائلا:
إسمعي يا ليزا، سأضرب لك بنفسي مثالاً..لو قد كان لي أسرة أثناء طفولتي، لما كنت اليوم على ما أنا عليه، إنّني كثيراً ما أفكر في هذا الأمر، مهما تكن حياتك في أسرتك شقيّة، فإنّ أباك وأمك ليسا عدوين لك على كلّ حال...ما هما عنك بغريبين، لابدّ أن يعبّرا لك عن حبهما مرّة في السنة على الأقل، أنت هناك تشعرين بأنّك في منزلك، أمّا أنا فلم تكن لي أسرة، ولعلّ هذا هو السبب في أنّني بلغت هذا المبلغ من...إنعدام الإحساس.
ويتحدّث بلزاك في روايته -امرأة في الثلاثين- عن امرأة تزوّجت من ضابط كبير رغم تحذيرات والدها المتكرّرة..وكيف أصبح هذا الزواج مصدراً رئيساً لتعاستها..وأنّها السيدة ديغليمان أنجبت من هذا الزوج طفلة أسمتها هيلين وبعد سنوات طويلة من الألم والشقاء والحزن الذي كبرت ونمت وترعرعت فيه، هربت هيلين للتزوّج من قرصان تاركة والديها، تلتقي الأمّ مع إبنتها هيلين مصادفة في إحدى الفنادق والابنة في حالة يرثى لها، صاحت السيدة ديغليمان:إبنتي!ماذا يلزمك؟
أجابت هيلين بصوت ضعيف: لم أعد في حاجة إلى شيء..كنت أتمنى رؤية أبي، ولكن حدادك ينبئني....
لم تكمل! وضمّت طفلها إلى صدرها كيما تدفّئه، وقبّلته فوق جبهته، ونظرت إلى أمّها نظرة يقرأ فيها العتاب مخفّفا بالعفو، ولم تشأ المركيزة أن تفهم هذا العتاب، ونسيت أنّ هيلين كانت فيما مضى طفلة محوطة بالدموع واليأس...طفلة الواجب..طفلة كانت سبباً في كلّ ما نزل بها من الشقاء الكبير، وتقدّمت برقّة منها، وهي تتذكّر فقط أنّ هيلين كانت أوّل من عرّفها بمتع الأمومة، وكانت عينا الأم مليئتين بالدموع..وعندما قبّلت إبنتها صاحت: هيلين!ابنتي..
وإحتفظت هيلين بالصمت، وإستنشقت آخر تنهّد صدر عن طفلها الأخير.
وأمسكت المركيزة بين يديها بيد إبنتها الباردة كالثلج، وتأمّلتها في يأس مروّع، لقد أنقذ الشقاء أرملة القرصان التي إستطاعت أن تنجو من الغرق دون أن تنقذ من كلّ أسرتها الجميلة سوى طفل واحد، قالت لأمّها بصوت حزين: كلّ هذا بسببك! لواستطعت أن تكوني لي أما...
وماتت هيلين وهي تميل برأسها نحو رأس طفلها الذي ضمّته بشدّة..
وفي رواية -عيون قذرة- للكاتبة السعودية قماشة العليان تتحدّث على لسان البطلة -سارة- والتي طُلّقت أمّها وهي مازالت صغيرة، وبالرغم من أنّها كانت تراها بين فترة وأخرى وفي كثير من الأحيان تبيت عندها..إلا أنّها كانت تشعر بمرارة فقدان الأمّ لأنّها أمّ بلا مشاعر..فتقول: أيّاً كان السبب فإنّ حنانها الآن يدخل عندي في بند المنتهي صلاحيته، فقد متّ عطشاً على أبواب أمومتها بحثاً عن قطرة حنان، ولمّا جفّت خلاياي وماتت عطشاً جاءت تعرض بضاعتها البائتة..لكن هيهات..لا حياة لمن تنادي..
لم أعد طفلاً يتحرّق لأحضانها في ليالي الشتاء الباردة، أو صبيّاً يبحث عن صدر حنون يحتضنه في الأيّام العصيبة، أو مراهقاً في خضم العاصفة يرنو إلى عصا يتوكّأ عليها من تقلّبات الأنواء..لقد حملت حرماني وإحتياجي عقداً وجروحاً أخل نفسي، لكني لن أعطي المجال لأحد بعد اليوم أن يبتزّني ولو بدافع الأمومة!!"
وفي موضع آخر تتذكّر سارة سيرة حياتها مع أمّها متسائلة:
دارت بي الدنيا ودرت بها..إتقد الجرح وإحتدم الألم وطفح الصديد..أمي..أماه..يمه..أين كنت في طفولتي الجرداء وأنا أنتحب ليلة عرسك أبحث عنك في كل مكان؟ أسأل حجارة الطريق عن حضنك الدافئ..
أين كنت في دوامة مرضي العاصف القاسي المدمّر؟ طفقت ألهث بحثاً عن سكن أهجع في كنفه هرباً من نوبات المرض الكاسحة، فلم أجد من ألوذ به سوى وسادة أغرقتها بدموعي ونفس ضائعة..تائهة في لجج النسيان..
أين كنت أمي حينما أنشد منك المعونة بعد أن تلاطمت بي أمواج الحياة فلا تدري أي شاطئ تقذف بي إليه، حينما أنتقل من بيت ينبذنا إلى بيت يكرهنا إلى بيت يمقتنا ويستثقل وجودنا..حينما يأتي وقت المغادرة كان يتمي يصرخ بأمومتك..وعيناي تستنجدان بفائض حنانك، وجفافي يتمسح بمحيطات عطفك..أن تستبقينا لديك مزيداً من الوقت لأنّه من الثوابت ألا حبّ يعلو على حبّ الأمّ، ولا حنان يفوق حنان الأمّ، لكنّك كنت أقسى من الغريب..فلفظتني كما تلفظ التمرة النواة، وأرغمتني بجفائك على الإحتماء بحقيبة ألتصق بها..أنتسب إليها..أنضوي تحت لوائها وتكون لي كلّ شيء، أمّاً ومسكناً ودنيا صغيرة.
الكاتب: هناء الحمراني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.